أدَّى تزايد الاهتمام بتقنيات "الذكاء الاصطناعي" (artificial intelligence) وأدوات التحول الرقمي إلى حدوث نهضة تكنولوجية في كافة القطاعات؛ إذ تكمن مشكلة هذه النهضة التكنولوجية في قلة المواهب والأيدي العاملة اللازمة لتطبيقها في الشركات، ولا سيما أنَّها أحدثت تغييرات جذرية ومفاجِئة في هيكلية العمل وبرزت بوصفها ضرورة ملحَّة لا تحتمل التأجيل.

تشير توقعات منظمة "المنتدى الاقتصادي العالمي" (The World Economic Forum) إلى أنَّ تطبيق التكنولوجيا سيبقى المحرك الرئيس للتغييرات في قطاع الأعمال، فضلاً عن أنَّ أدوات الأتمتة المدعومة بتقنيات "الذكاء الاصطناعي" ستحل مكان نحو 85 مليون وظيفة مسؤولة عن المهام الروتينية.

هنا يبرز التساؤل الآتي: "هل القوى العاملة الحالية مهيَّأة لإجراءات إعادة تأهيل المهارات اللازمة لمواكبة النهضة التكنولوجية والتغييرات المصاحبة لها؟".

أصبحت الحاجة ملحة لتطبيق برامج "التعلم والتدريب" (L&D) من أجل تهيئة القوى العاملة والاستفادة من المواهب المتوفرة في مواكبة النهضة التكنولوجية، فيجب أن تكون هذه البرامج مدروسة بعناية ومبنية على أساس زيادة اندماج الموظفين.

لا تهدف مبادرات التدريب الشاملة إلى تهيئة طاقم عمل خبير وحسب؛ وإنَّما إلى مساعدة الموظفين على تحقيق النماء والتقدم المهني، وزيادة شعورهم بالأمان الوظيفي في ظل ظروف العمل المضطربة والمتقلبة وميل بعض الشركات إلى تسريح العمالة وإفساح المجال لأدوات الأتمتة المدعومة بتقنيات "الذكاء الاصطناعي".

تزيد هذه المبادرات من عنصر الثقة بالشركة والروح المعنوية للموظفين؛ لأنَّهم يشعرون بأنَّ الشركة تقدِّر قيمتهم ومساهمتهم في العمل، وهذه الثقة ضرورية من ناحية أخرى لاستقطاب المستثمرين الذين يبحثون عن قيادات تواكب التطورات التكنولوجية.

يبحث المقال في آلية الاستفادة من الأدوات والتقنيات الناشئة الشائعة في العصر الحديث مثل "الذكاء الاصطناعي" في تصميم برامج تدريب تهدف لتنمية مهارات الموظفين وإعادة تأهيلهم لمواكبة التطورات التكنولوجية، ويناقش المقال من ناحية أخرى فائدة "الذكاء الاصطناعي" في تنظيم عمليات تدريب الموظفين وتعزيز فاعليتها، وزيادة العائد على الاستثمار في التدريب.

استخدام "الذكاء الاصطناعي" في تدريب الموظفين:

تتيح ميزات "الذكاء الاصطناعي" للمؤسسات إمكانية إعداد برامج تدريب فعالة، ومصمَّمة خصيصاً لمواكبة التطورات التكنولوجية على نطاق واسع، وذلك عن طريق الخطوات الآتية:

1. اختيار محتوى ملائم لأهداف التدريب:

يمكن الاستفادة من الأفكار والتحليلات التي تقدِّمها لنا أدوات "الذكاء الاصطناعي" في إعداد محتوى يحقق أهداف التدريب، وتساهم هذه الطريقة في زيادة فاعلية مبادرات "التعلم والتطوير" وتلبية الاحتياجات التدريبية.

يمكن استخدام أدوات "الذكاء الاصطناعي" التوليدي في رفد مبادرات التدريب؛ إذ تُستخدَم أدوات "شات جي بي تي" (ChatGPT)، و"جوجل بارد" (Google’s Bard)، و"بيربليكسيتي" (Perplexity) في إنشاء المحتوى النصي.

في حين تُستخدَم أداة "دال- إي 2" (Dall-E 2) لتوليد الصور بالاعتماد على "الذكاء الاصطناعي"، وقد يستخدم الموظفون "شات جي بي تي" في جمع المعلومات المتوفرة عبر الإنترنت، والحصول على الأجوبة التي يحتاجون إليها، ويساهم هذا المحتوى الواقعي والمخصص لاحتياجات الموظفين في تحفيزهم وتشجيعهم على البحث عن المفاهيم الجديدة والمعقدة بطريقة تفاعلية.

2. استخدام "الذكاء الاصطناعي" في زيادة تفاعل واندماج الموظفين مع محتوى التدريب:

يساعد "الذكاء الاصطناعي" على حل مشكلة إعداد محتوى التدريب، لكن يكمن التحدي الآن في تقديم هذا المحتوى بطريقة فعالة تجذب اهتمام الموظفين، وتشمل الإصدارات الحديثة من أدوات "الذكاء الاصطناعي" التوليدي ميزات مبتكَرة لمساعدة فِرق التدريب على التغلب على هذه المشكلة، ويمكن الاستفادة من أدوات تحويل النص إلى مقاطع فيديو باستخدام تقنيات "الذكاء الاصطناعي" في إنشاء مقاطع فيديو تجذب اهتمام المتدربين.

يمكن الاستفادة من أدوات "الواقع الافتراضي" (VR)، و"الواقع المعزز" (AR) في تقديم تجارب تدريب غامر، ولا سيما عن طريق استخدام البيئات الرقمية التي تتيح للمتدربين إمكانية التعامل مع مواقف وحالات من الحياة العملية.

تتيح البيئات الافتراضية للموظفين إمكانية اقتراف الأخطاء دون أن يتعرضوا لأي عواقب في الواقع، وذلك خلال مرحلة تأهيل الموظفين الجدد وتطبيق برامج التدريب لتنمية مهارات الموظفين الحاليين؛ إذ يستخدم متجر "وول مارت" (Walmart) على سبيل المثال تقنية "الواقع الافتراضي" لمحاكاة حالات ومواقف من الحياة العملية عند تدريب الموظفين الجدد، من أجل زيادة فاعلية التدريب في ميادين التكنولوجيا، والمهارات الناعمة، والامتثال للوائح التنظيمية.

تتيح أدوات "الذكاء الاصطناعي" إمكانية إجراء التدريبات في تخصصات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، ويُرمَز لمجموعة التخصصات المذكورة آنفاً بالاختصار "إس تي إي إم" (STEM).

تشير أحد الأبحاث المنشورة في "المجلة الدولية لتعليم العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات" (STEM education journal) إلى أنَّ تطبيقات "الذكاء الاصطناعي" في مجال تعليم "العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات" تتوزع على الشكل الآتي:

  • 29% لتنبؤ عمليات التعلم.
  • 25% لأنظمة التدريس الذكية.

هذه أمثلة بسيطة عن استخدام "الذكاء الاصطناعي" في تحسين تفاعل واندماج المتدربين.

3. استخدام "الذكاء الاصطناعي" في إجراء التقييمات والتحليلات:

قد تستفيد المؤسسات من نتائج الدراسات التحليلية التي يقدِّمها "الذكاء الاصطناعي" في عمليات اتخاذ القرار؛ إذ تساهم أدوات "الذكاء الاصطناعي" مثل المساعد الافتراضي في توفير الوقت الذي يهدره المدرِّب على المهام الروتينية مثل تصحيح الاختبارات، وتفقُّد جداول الحضور وغير ذلك.

قد يستخدم المدرِّب هذا الوقت الإضافي في التقرب من المتدربين وزيادة فاعلية برنامج التدريب؛ إذ تتيح أدوات "الذكاء الاصطناعي" وميزات الأتمتة إمكانية إجراء التقييمات والحصول على تغذية راجعة مباشرة لتقييم المتدربين بفاعلية أكبر.

تستخدم تطبيقات تعلُّم اللغات المدعومة بتقنيات "الذكاء الاصطناعي" مثل "دولينغو" (Duolingo) و"بابل" (Babbel) تكنولوجيا التعرف إلى الكلام لتحليل لفظ المتعلمين وتقييمه وتقديم التغذية الراجعة.

يمكن استخدام أدوات "الذكاء الاصطناعي" لمساعدة الفِرق على جمع البيانات عن برامج التدريب المصمَّمة حسب الطلب وأنماط اندماج وتفاعل الموظفين، ويجب التنويه هنا إلى أدوات تحليل المشاعر التي تساعد على تحديد مدى رضى الموظف عن برامج التدريب الحالية وحاجته إلى الخضوع لتدريبات إضافية.

تقدِّم هذه الأدوات دراسات تحليلية جاهزة عن أهداف الأطراف المعنية بالتدريب، ومدى رضى الموظفين عن برامج التدريب، ومستوى اندماجهم معها، وهو ما يتيح لفِرق الإدارة إمكانية توفير الوقت والموارد، وتركيز جهودهم على زيادة فاعلية إجراءات وعمليات التدريب.

الحد من مشكلات التحيز المرتبطة باستخدام "الذكاء الاصطناعي":

يوجد عدد من الفوائد المرتبطة باستخدام "الذكاء الاصطناعي"، لكن يجب أن تنتبه الأطراف المعنية إلى المشكلات التي تنجم عن تطبيقه في بيئات التدريب.

قد تنجم بعض المشكلات عن استخدام "الذكاء الاصطناعي" وقد تؤثر هذه التقنيات سلباً في جودة برامج "التعلم والتطوير" (L&D) في بعض الحالات، وفيما يأتي 3 خطوات للحد من هذه المشكلات وزيادة العائدات وتحسين سير العمل في المؤسسة:

1. الحد من حالات التحيز والتفرقة التي قد تنجم عن استخدام "الذكاء الاصطناعي":

قد ينجم عن استخدام "الذكاء الاصطناعي" في التدريبات تزايداً في عدد حالات التحيز والتفرقة، وتقديم بعض المعلومات المغلوطة بطريقة مقنعة إلى جانب الافتقار إلى الوضوح في بعض الحالات.

أجرت منصة "ستانفورد للابتكار الاجتماعي" (Stanford Social Innovation) دراسة تحليلية لنحو 133 نظام متحيز في مختلف القطاعات من العام 1988 وحتى الوقت الحاضر، وقد بينت نتائج الدراسة أنَّ 44.2% من الأنظمة أظهرت تحيزاً جنسياً، و25.7% منها أظهرت تحيزاً جنسياً وعنصرياً في آنٍ معاً.

قد لا تكون هذه الأنظمة عادلة في التعامل مع الأقليات، وهو ما يؤدي بدوره إلى حدوث توزيع غير عادل للمصادر والموارد؛ وبالنتيجة تتأثر جودة المعلومات المكتسبة، وقد تغفل بعض الأنظمة عن العوائق المؤثرة في الأقليات التي تمتلك مستويات متفاوتة من المهارات بسبب التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها.

2. منع أنظمة "الذكاء الاصطناعي" من تقديم المعلومات المغلوطة:

يشتكي بعضهم من أداة "شات جي بي تي" التي تقدِّم معلومات مغلوطة في بعض الأحيان، وتتزايد المخاوف بشأن عواقب استخدامها في تلقين المفاهيم الجديدة للمتدربين.

يجب أن يكون المتدرب قادراً على تحكيم عقله وتقييم المعلومات التي تقدِّمها أدوات "الذكاء الاصطناعي" بما يقتضيه المنطق، وقد تنجم تداعيات خطرة عن هذه الدروس المليئة بالأخطاء.

3. الاستفادة من حوكمة البيانات وميزات "الذكاء الاصطناعي":

تنجح استراتيجيات "التعلم والتطوير" (L&D) التي تستخدم "الذكاء الاصطناعي" المسؤول عندما تتخذ الشركات قرارات مدروسة فيما يتعلق بمسائل البيانات، والحوكمة، والموارد البشرية من أجل إعداد بيئة تدريب متكاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي.

أجرت المجلة البحثية "إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو" (MIT Sloan Management Review survey) استطلاعاً شمل 1093 مشاركاً من نحو 96 بلداً، وقد بينت نتائج الاستطلاع أنَّ 84% من المشاركين يعتقدون بأنَّ الذكاء الاصطناعي المسؤول يجب أن يكون أولوية رئيسة لدى قسم الإدارة.

يقتضي التطبيق العملي لمفهوم "الذكاء الاصطناعي المسؤول" وضع خطة عمل مؤلفة من خطوات تفصيلية لتوجيه سير العمل، فإنَّ التخطيط لتنمية المواهب في القطاعات التي ستشهد تحولات جذرية في هيكلية العمل بسبب دخول أدوات الأتمتة والآلة يقتضي الإلمام بآخر المستجدات وأحدث الممارسات في القطاع.

تساهم هذه الإجراءات في تعزيز ثقة الموظف وشعوره بالأمان الوظيفي، فقد بينت نتائج أحد استطلاعات منصة "تالنت إل إم إس" (TalentLMS) أنَّ 49% من موظفي الولايات المتحدة الأمريكية يطالبون بالخضوع لتدريبات على استخدام أدوات "الذكاء الاصطناعي".

في الختام:

يمكن عَدُّ التكنولوجيا أداة مساعدة في عمليات التنمية الذاتية ودعم الفِرق لتحقيق النجاح المطلوب، فيجب أن يحرص كل من الموظفين والمؤسسات على الاستفادة من "الذكاء الاصطناعي" والتكنولوجيا من أجل الحفاظ على القدرة التنافسية ومواكبة التطورات، كما ينبغي أن تكون استجابة الأطراف المعنية سريعة حتى تقدر على مواكبة هذه التطورات التكنولوجية.

يجب أن يضمن القادة في أثناء تطبيق تقنيات "الذكاء الاصطناعي" التوليدي أن تكون العمليات أخلاقية وشاملة لكافة شرائح الموظفين، وهذا يشمل تدريبات تنمية المواهب.

ينبغي أن يعمل القادة على إعداد استراتيجيات متكاملة خاصة "بالذكاء الاصطناعي" عن طريق استشارة مجموعة متنوعة من الأطراف المعنية؛ وذلك لأنَّ إعداد استراتيجيات "التعلم والتطوير" الشاملة والموجهة يتطلب الحصول على المعلومات من الباحثين، والموظفين، وصناع السياسات، والمبتكرين.

قد تساعد هذه الإجراءات على الوقاية من المشكلات المرتبطة باستخدام أدوات "الذكاء الاصطناعي"، فيجب أن تعطي الشركات الأولوية لإعداد الخطط اللازمة لتطوير مهارات العاملين وجذبهم باستخدام أدوات "الذكاء الاصطناعي" المسؤولة أساساً عن إحداث التغييرات الجذرية في سوق العمل.