يتعرض قطاع التعليم والتطوير إلى ضغوطات متزايدة من أجل الإسراع إلى تقديم قيمة في عالم العمل الذي يشهد تغيرات مُتسارعة، ولكن كيف يمكنه - وبأفضل الطرائق - تحديد الطلبات ذات الأولوية لإحداث أكبر تأثير في العمل؟

ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب تشارلز جينينغز (Charles Jennings) والذي يُحدثنا فيه عن إجراءات تزيد من تأثير العمل.

بما أنَّ قادة التعليم والتطوير يضعون استراتيجيات وخطط عمل العام القادم، فإنَّ الحاجة إلى تحديد الأولويات ستكون قمة اهتماماتهم.

نحن نعلم جميعاً أنَّ الطلبات على خدمات التعليم والتطوير ستفوق دائماً الموارد المُتاحة والوقت المتاح، وفي هذا الوقت من العام، من المرجَّح أن يواجه قادة التعليم والتطوير طلبات لمجموعة من حلول التعلُّم "العاجلة" أو "الحرجة" من عملائهم الداخليين.

لقد أدَّت التدريبات الجديدة التي جاءت استجابة للتعليمات المتغيرة وتحديثات برامج القيادة، ودورات تمكين المبيعات إلى تحويل النموذج القائم على التدريب وجهاً لوجه إلى نموذج التدريب عبر الإنترنت (على الرغم من أنَّ كثيراً من ذلك حدث استجابةً لتحديات كوفيد-19 "Covid-19" في عام 2020)، وذلك إلى جانب عديد من الطلبات الأخرى.

إذاً، كيف يمكن لقادة التعليم والتطوير تحديد أولويات جميع هذه الطلبات، واختيار تلك التي ستحقق أكبر تأثير في مؤسساتهم؟ هنا، سأناقش ثلاثة مجالات تركيز هامة، وإجراءات يجب أن يتخذها قادة التعليم والتطوير إذا أرادوا من فرقهم تلبية الطلبات المناسبة بالطريقة المناسبة، وتقديم حلول أفضل وتأثير أكبر في عام 2021.

هذه هي الإجراءات باختصار:

● الإجراء الأول: اجعل هدفك الرئيس تقديم قيمة عمل قابلة للقياس

ركِّز على استخدام مقاييس عمل مناسبة لتحديد حجم القيمة التي تود تقدمها إلى مؤسستك.

● الإجراء الثاني: عزِّز التخطيط المشترك في نموذج العمل

احرص على أن تكون الحلول نتاج جهد مشترك مع المساهمين الرئيسين، ولا تقدِّم حلولاً مُعلَّبة. 

● الإجراء الثالث: اجعل العمل محور نهجك في التعلُّم

اجمع بين التعليم والعمل، وابحث عن استغلال الفرص لغرس التعليم في سير العمل اليومي، واستخلاص الدروس منه وتوظيفها في إيجاد الحلول.   

الإجراء الأول: قيمة عمل قابلة للقياس

خلال عطلة احتفالية، قرأت كتاب تيم هارفورد (Tim Harford) "كيف تجعل العالم ذا معنى" (How to make the world add up) لقد كان مليئاً بالأفكار ومريحاً في نهاية العام المضطرب الذي عاشه معظمنا؛ لذلك، أودُّ أن أوصي بالكتاب لجميع قادة التعليم والتطوير.

هارفورد خبير اقتصادي وكاتب عمود بارز في صحيفة فاينانشل تايمز (Financial Times)، وهو أيضاً مذيع في قناة بي بي سي (BBC)، وقد أمضى الجزء الأكبر من العشرين عام الماضية في دراسة وفهم البيانات بجميع أشكالها، ونشر الحقائق والأكاذيب وراء الأرقام بوضوح (لم تكن هذه المهارة مطلوبة أكثر مما هي عليه في عالم اليوم).

العنوان الفرعي لكتابه هو: "عشر قواعد للتفكير بالأرقام بطريقة مختلفة" (ten rules for thinking differently about numbers)، وقاعدته الأولى -المدهشة نوعاً ما- هي: "ابحث عن مشاعرك".

يكشف هارفورد من خلال شرح عملية احتيال سيئة السمعة في عالم الفن وحالات أخرى كيف ننخدع في كثير من الأحيان، ليس فقط من قبل الناس، ولكن أيضاً من قبل الأرقام وأمور أخرى؛ لذا يحتاج قادة التعليم والتطوير إلى مراعاة ذلك عند اختيار البيانات التي عليهم جمعها واستخدامها في إثبات قيمة العمل المراد تقديمها.

يجب تجنب الخطأين اللذين ذكرهما هارفورد في كتابه، وهما: تقديم ادعاءات يمكن إثبات أنَّها لا أساس لها من الصحة حين تدقيقها، وتجاهل البيانات والحقائق التي لا ينبغي تجاهلها. بمعنى آخر، تأكد من أنَّك تقيس الأشياء الصحيحة (تأثير العمل بدلاً من تأثير التعليم) وتأكد من أنَّك تستخلص استنتاجات قوية مدعومة بالأدلة.

بعض المزالق التي تلوح في الأفق أمام قادة التعيلم والتطوير هي تلك التي تجلبها "البيانات الضخمة"؛ إذ ليس هناك شك في أنَّها تُحدث ثورة في عالمنا، ولكنَّ استخدامها يجب أن يترافق مع بعض التحذيرات الصحية المتعلقة بالتعليم والتطوير.

يوضح هارفورد في كتابه أنَّ البيانات الضخمة غالباً ما تكون أقل موثوقية من "البيانات الصغيرة"، وهذا يعني أنَّ البيانات الصغيرة تكون أكثر شفافية ويمكن فحصها بسهولة بواسطة الأدوات التحليلية؛ وفي المقابل، تتولد مجموعات البيانات الضخمة بواسطة مصادر مُبهمة قادرة على التعرف على الأنماط وتأخذ في الحسبان المسألة التجارية.

لا تؤدي كثرة البيانات وحدها بالضرورة إلى الاستنتاجات السببية الصحيحة، ويُضاف إلى ذلك أنَّ مجموعات البيانات الضخمة تجعل قادة الموارد البشرية والتعليم والتطوير يعتمدون على مزيج الارتباط والسببية بانتظام، وهذا له ما يبرره.

يَذكُر عديد من المفكرين البارزين في مجال البيانات الضخمة (مثل كريس أندرسون (Chris Anderson)، أحد "خبراء" التخصص) بأنَّه من غير المجدي تجاوز الارتباط هذا؛ والذي هو طريق خطير يجب السير فيه بعناية؛ إذ يحتاج قادة التعليم والتطوير إلى استخدام مناهج ومعايير قياس قائمة على مبدأ السبب والمُسبِّب، بحيث توفر دليلاً مباشراً واضحاً وقابلاً للقياس عن تأثير الأعمال، لذا فالارتباط ليس كافياً من حيث الإثبات، كما أنَّه غير موثوق بما فيه الكفاية.

تشير الدلائل إلى أنَّ الافتراضات السببية الخاطئة القائمة على الارتباطات تكثر في مهنتنا كما في أي مهنة أخرى؛ ويوجد على ذلك عديد من الأمثلة الكلاسيكية مثل مبادرة "جوجل فلو تريندز" (Google Flu Trends) سيئة السمعة.

أحد الأمثلة على الافتراض السببي الخاطئ في الموارد البشرية والتعليم والتطوير هو الاعتقاد الشائع بأنَّ مشاركة الموظفين تؤدي إلى تحسين الأداء والعمل، في حين تشير الأبحاث إلى أنَّ العكس هو الأرجح- يميل أصحاب الأداء العالي إلى أن يكونوا موظفين أكثر تفاعلاً، ويؤدي أداء العمل الجيد إلى مستويات أعلى من مشاركة الموظفين (نحب جميعاً أن نكون في فريق رابح).

الواقع في هذه الحالة هو أنَّه سوف تُحقَّق نتائج أعمال أفضل إذا ركزت الموارد البشرية والتعليم والتطوير على تحسين أداء المهام بدلاً من الإجراءات لتحسين مستويات المشاركة.

يقدِّم كتاب هارفورد بعض الأفكار القيِّمة لمساعدة قادة التعليم والتطوير على تحقيق هدفهم المتمثل في إظهار تأثير الأعمال للعملاء الرئيسين في مؤسساتهم:

  • ابحث عن مشاعرك: كن على دراية بـ "التحيزات العاطفية" الشخصية أو المؤسسية، واكتشف ما تأمل أن يكون موجوداً فحسب، وتجاهل ما لا تريد رؤيته.
  • حدِّد المقاييس الصحيحة: خلافاً لمقاييس التعليم، سوف تساعد مقاييس العمل في إظهار قيمة العمل.
  • اجمع بين منظور إحصائي شامل ومنظور محدود من التجربة الشخصية.
  • استخدم المقاييس التي تقارن وتقدم أدلة على السببية.
  • اطرح أسئلة صعبة حول الخوارزميات ومجموعات البيانات الكبيرة التي تسببها، وتأكد من الانفتاح وتحقق من الافتراضات المتأصلة.

الإجراء الثاني: استخدام التخطيط المشترك - محرك الابتكار والنتائج

يكاد يكون من المستحيل بناء حلول تعليمية ناجحة دون المشاركة في التخطيط مع العملاء، وأصحاب الأداء النموذجيين، ومجموعة من المتخصصين في المجالات ذات الصلة. بعبارة أخرى، لا يستطيع التعليم والتطوير أن يفعل ذلك بمفرده.

لقد اعتُرِف بقوة الابتكار المشترك منذ سنوات؛ حيث لخَّص الأكاديميان فينكات راماسوامي (Venkat Ramaswamy) وفرانسيس جويلارت (Francis Gouillart) العناصر الرئيسة في كتابهما "قوة التخطيط المشترك" (The power of co-creation)، ووجدوا أنَّ التخطيط المشترك على نحو ملموس "يساعد الشركات في التعلُّم بذكاء وسرعة، ويقلل  احتمالية عدم الاتصال بالخبرات البشرية".

يُعَد الإبداع المشترك أمراً ضرورياً إذا أرادت فرق التعليم والتطوير بناء حلول تتناسب مع الأولويات التنظيمية واحتياجات المساهمين والمستخدمين.

في الكتاب "70:20:10 نحو أداء بنسبة 100 في المائة" (70:20:10 towards 100 percent performance)، حددنا دوراً محدداً (مُغيِّر قواعد الأداء) بمهمة بناء علاقات مع المساهيمن الرئيسين وغيرهم، والاتفاق على نتائج الأداء، والعمل مع "البناة الرئيسين" في أثناء قيامهم بتقديم حلول إلى التعليم والتطوير، وضمان تقديم الخبرة في مجال الأعمال والأداء عند الحاجة؛ وكل هذه المهام ضرورية للاستفادة من التخطيط المشترك.

يُعَد التخطيط المشترك هاماً عند بناء دعم الأداء خاصة، بسبب المكون الاجتماعي الهام. ولا يقتصر الأمر على العمل مع متخصصي المحتوى وأصحاب الأداء النموذجيين والخبراء والمستخدمين النهائيين والمديرين وزملاء التعليم والتطوير؛ فالمكون الاجتماعي هو مجتمع المستخدمين النهائيين الذين يستجيبون للدعم ويساهمون في عملية التحسين المستمر والابتكار.

الإجراء الثالث: جعل العمل محور نهجك في التعلُّم

لأكثر من 20 عاماً، كنت أشيد بالقول المأثور "عندما يكون العمل هو التعلُّم، فإنَّ التعلُّم ينجح". أعتقد أنَّ معنى هذا القول واضح؛ فعندما يكون العمل والتعلُّم متكاملان، فهذا يعني أنَّ قادة التعليم والتطوير وفرقهم يقومون بعملهم، كما يعني أنَّ العمل والتعلُّم وجهان لعملة واحدة؛ ذلك لأنَّنا ندمج التعليم في مجموعة المهام التالية في أثناء قيامنا بتنفيذ المهام التي نتعلمها، ومن خلال هذه العملية نؤسس "ثقافة التحسين المستمر".

غالباً ما ننسى أنَّ العامل الأكثر أهمية للتعلُّم الفعَّال لا يكمن في المحتوى، وإنَّما في السياق؛ حيث يصبح التعلُّم أكثر فعالية حين يكون السياق والمحتوى متوائمان.

أظهرت الأبحاث التي تعود إلى ما لا يقل عن 120 عاماً أنَّه عندما يكون السياق الذي يحدث فيه التعليم متطابقاً مع السياق حيث يُطبَّق هذا التعليم، يكون التعليم أكثر فعالية. وأكد ثورن ديك (Thorndike)، وودورث (Woodworth) هذا في بحثهما عن "نظرية العناصر المتطابقة" (Theory of identical elements) في عام 1901.

هذا هو السبب في أنَّ دعم الأداء المرتكز على السياق في كثير من الحالات، يكون أكثر فاعلية بكثير من التدريب بعيداً عن العمل والتعليم الإلكتروني.

ماذا يعني هذا لقادة التعليم والتطوير؟

يعني هذا أنَّه إذا أراد قادة التعليم والتطوير إنجاح مناهج "مركز التعلُّم"، فيجب أن يمتد التركيز والنشاطات إلى ما هو أبعد من التعليم الرسمي، وما هو أبعد من ترسيخ التعليم الرسمي في مكان العمل؛ إذ إنَّ كثيراً من "التعليم في مكان العمل" الذي تستخدمه أقسام التعليم والتطوير هو في الواقع "التعليم الرسمي في مكان العمل".

يحتاج قادة التعليم والتطوير التوسع إلى ما هو أبعد من تقديم وحدات التعليم الإلكتروني الرسمية و"التعليم الجزئي" أو "التدريب الجزئي" كحلول للتعليم في مكان العمل، والتفكير في ترسيخ منهجية تعليم قوية قائمة على الأداء في مكان العمل.